
تتميز متاحف الإسكندرية بمجموعة رائعة من القطع الأثرية النادرة التي تعكس عصورًا متعددة من تاريخ مصر القديم والحديث، ومن بين هذه الآثار تبرز تماثيل التناجرا، التي توجد فقط في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، حيث يُقدّر عددها بعشرات المجموعات التي تضم آلاف القطع الأثرية، ويعود تاريخها لأكثر من ٢٣ قرنًا، أي حوالي ٢٣٠٠ سنة، وتُعتبر من أجمل التماثيل التي تعكس الحياة اليومية عبر العصور.
تماثيل التناجرا مصنوعة من التراكوتا، وهي نوع من الطين المحروق الملون بألوان رائعة، وسُميت بهذا الاسم نسبةً لمدينة تناجرا اليونانية التي وُجد فيها أقدم الأمثلة المعروفة، وقد تم اكتشاف مجموعات التناجرا في المقابر القديمة بالإسكندرية، وخاصةً في مقابر الشاطبي والإبراهيمية.
يقول الدكتور خالد أبوالحمد، مسؤول المنافذ البحرية الأثرية في الإسكندرية والمدير السابق لمنطقة آثار الإسكندرية، إن معظم تماثيل التناجرا تعود للقرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، حيث تُصوّر النساء والأطفال من المجتمع السكندري، وتُعبر بشكل حي عن الحياة اليومية اليونانية، مشيرًا إلى أنها تُعتبر من أبرز إنجازات فن النحت الإغريقي الهلنستي.
وأضاف أبوالحمد، في تصريحات لـ «إقرأ نيوز»، أن هذه التماثيل سُمّيت نسبةً إلى مدينة «تناجرا» الموجودة في إقليم بيوتيا وسط اليونان، حيث تم العثور على عدد كبير منها لأول مرة في القرن التاسع عشر، لكنها لم تكن مقتصرة على تلك المدينة بل انتشرت في العديد من المناطق الهلنستية، خاصة في مصر وآسيا الصغرى وقبرص، حيث كانت تُصنع من الطين المحروق وتُشكّل باستخدام قوالب، ثم تُزيّن بالألوان بعد الحرق، وما زال الكثير منها يحتفظ ببقايا الألوان الأصلية، مما يدل على أنها كانت ملونة بشكل زاهٍ في الأصل.
تمثل التماثيل مشاهد يومية للنساء والأطفال، وتظهر الشخصيات في وضعيات هادئة ومليئة بالتفاصيل، بعضها يحمل طابعًا دينيًا أو رمزيًا، بينما يبدو معظمها دنيويًا وزخرفيًا، وقد تم اكتشاف هذه التماثيل في الإسكندرية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في مواقع دفن تعود للعصر البطلمي، وتم العثور على أعداد منها في مقابر مثل كوم الشقافة والشاطبي والأنفوشي، ويعتقد الباحثون أن عددها يقدر بالآلاف موزعة بين المتحف اليوناني الروماني والمتحف القومي بالإسكندرية ومتاحف أخرى حول العالم.
وفيما يتعلق بأهميتها، قال أبوالحمد إن هذه التماثيل تكشف عن الذوق الفني السكندري المتأثر بالفن الإغريقي، كما تعكس أيضًا ملامح محلية، وتعتبر شاهدًا على الحياة اليومية للمرأة في المجتمع السكندري الهلنستي، بالإضافة إلى استخدامها كمصدر لدراسة الملابس وتسريحات الشعر والعادات الاجتماعية.
أما عن خصائص التماثيل، فهي صغيرة الحجم تتراوح بين ١٠ و٣٠ سم، وتمثل مشاهد حياتية متنوعة، واستُخدمت في تلوينها ألوان مثل الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض، وتوجد حاليًا في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، وكذلك في المتحف المصري بالقاهرة ومتاحف أوروبية مثل متحف اللوفر والمتحف البريطاني، حيث تمثل قمة الرقة والواقعية في فن التراكوتا الهلنستي، وقد وُجدت ضمن طقوس جنائزية غالبًا، مما ينقل لنا لمحات دقيقة من حياة المرأة والمجتمع السكندري في العصر البطلمي، وهي تُعتبر من أبرز وأجمل الأعمال الفنية التي خلفها العالم اليوناني القديم، وقد نالت شهرة كبيرة في أوروبا خلال أواخر القرن التاسع عشر، خاصة بين الطبقة الوسطى.
من جانبها، قالت الدكتورة ولاء مصطفى، مدير عام المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، إن تماثيل التناجرا تتميز بتفاصيلها ومواضيعها الأثرية، مما يجعلها من أجمل التماثيل التي تعكس واقع المرأة السكندرية.
وأوضحت مصطفى لـ«إقرأ نيوز» أنه يتم حاليًا عرض تماثيل التناجرا في قاعة الحياة اليومية اليونانية بالمتحف، حيث تُظهر شكل المرأة في الإسكندرية التي تهتم برشاقتها وجمالها وثقافتها.
وأشارت إلى أنه خلال زيارة رئيس دولة اليونان للمتحف مؤخرًا، أُعلن أن المتحف اليوناني يمتلك مجموعة فريدة من تلك التماثيل، تميزها عن مجموعات اليونان نفسها.
وقال حسن صلاح، باحث أثري وعضو مؤسسة أحفاد الإسكندر الأكبر الثقافية في الإسكندرية، إن اليونانيين تميزوا في استخدام الطين المحروق لأغراض فنية متعددة، فيما يُعرف بمنتجات التراكوتا، إذ تضم تماثيل ولوحات ومصبوبات، وكانت طريقة صنعها تعتمد على حرق الطين الفخاري ثم تغطيته بطلاء لامع أبيض، ثم حرقه مرة أخرى لتلوينه بالألوان.
وأوضح صلاح، في تصريحات لـ«إقرأ نيوز»، أن الاستخدام الأول لمنتجات التراكوتا، خاصة في مراحلها المبكرة، كان كقرابين للآلهة مثل ديميتر وبيرسفونى وديونسوس، ويرجع تاريخ تطور تماثيل التراكوتا إلى العصر الموكيني، حيث عُثر على أقدم مثال في موكيناى يعود للفترة بين ٦٥٠ و٧٠٠ قبل الميلاد، وكان يعتمد في صناعته على طريقة الـModelling، حيث كان التمثال طويل الرقبة وذو وجه ممتلئ، ثم ظهرت بعد ذلك تكوينات فنية أخرى.
وأشار إلى أن من بين المجموعات المهمة في المتحف اليوناني الروماني، تماثيل صغيرة لسيدات تُعرف بتماثيل «التناجرا»، التي تُظهر الأفكار الراقية للمجتمعات الإسكندرية بكل سحرها وثقافتها الرفيعة، وتعود هذه المجموعة بين نهاية القرن الرابع وبداية القرن الثالث قبل الميلاد، وقد استُوردت القوالب المستخدمة لصناعة التماثيل من بلاد الإغريق.
ولفت إلى أن التناجرا كانت تُصوّر سيدات ذوات أصول يونانية يرتدين ملابس تقليدية مثل الخيتون، وهو رداء طويل شفاف، مع عباءة سميكة تُسمى «هيماتون»، وتزين رؤوسهن بورود على شكل إكليل، وبعض التماثيل تُظهر تسريحات شعر مقسمة إلى خصلات طويلة، كما تمثل سيدات يعزفن على الآلات الموسيقية أو بنات صغيرات يتلقين دروسهن، أو أطفالًا يرتدون الملابس التقليدية المقدونية.