الأوطان: أكثر من مجرد تراب – موضوع خطبة الجمعة اليوم

الأوطان: أكثر من مجرد تراب – موضوع خطبة الجمعة اليوم

يؤدي أئمة المساجد خطبة الجمعة اليوم بعنوان: «الأوطان ليست حفنة من تراب»، وهو الموضوع الذي حددته وزارة الأوقاف سابقًا

وذكرت وزارة الأوقاف أن الهدف من هذه الخطبة هو توضيح أهمية العقل والوطن، والتحذير من الفكر المتطرف الذي يفسد العقول ويدمر الأوطان، مع التأكيد على أن حب الوطن جزء لا يتجزأ من التدين الحقيقي، وأن الحفاظ على ممتلكاته وهويته واقتصاده هو من أعظم صور البر بالوطن.

وجاء نص خطبة الجمعة كالتالي:

الحمد لله رب العالمين، هدى العقول ببدائع حكمه، ووسع الخلائق بجليل نعمه، أقام الكون بعظمة تجليه، وأنزل الهدى على أنبيائه ورسله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا أحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وصفية من خلقه وحبيبه، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وختمًا للأنبياء والمرسلين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإن الوطن قصة تروى على ألسنة الأجيال، وروح تسكن في كل زاوية ودرب، الوطن شعب عريق، وحضارة سامقة، ومؤسسات تقوم بسواعد البناء، وانتصارات تسطر بدماء الأبطال، ورجال عباقرة نسجوا مجده، وعلماء ومخترعون ومبدعون وقفوا على ثغور العلم وأبهروا العقول، ومناضلون صنعوا المجد، فالوطن يعيش فينا كما نعيش فيه.

أيها الناس، إن من يختزل هذه الكلية الأبدية الساحرة في «حفنة تراب» إنما ارتكب عقوقًا وطنيًا، وشوه مفهومًا عظيمًا، قال سيد الزهاد إبراهيم بن أدهم –رحمه الله- معبرًا عن قيمة وطنه: «ما قاسيت فيما تركت شيئًا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان»

أيها الكرام، هذه رسالة إلى من قست قلوبهم تجاه أوطانهم، ألم يأتِ القرآن والسنة بالآيات والأحاديث التي تدل على الأهمية العظمى للوطن؟ ألم يُشر القرآن في عشرات الآيات إلى قيمة الوطن؟ ألم يقترن الله تعالى مفارقة الأوطان بقتل النفس في قوله: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم}؟ ألم يجعل الله سبحانه وتعالى الجلاء عن الوطن عذابًا للمخالفين، فقال: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا}؟

أيها الكرام، هل تدركون أن الوطن ليس جمادًا لا إحساس له، بل هو كائن يتنفس؟ ألم يخبرنا الحبيب المصطفى ﷺ أن الحجر سلم عليه قبل البعثة؟ ألم يحن إليه الجذع ويبكي شوقًا حتى سكن بين يديه الشريفين، ألم يسبح الحصى في كفه الشريف، ألم تشك إليه الحيوانات والدواب، كل هذا ينبئنا أن الكائنات تعي وتشعر.

عباد الله تدبروا، إن الوطن يحزن ويفرح، يرضى ويغضب، فهو قيم وأخلاق، وعادات وتقاليد، وولاء وانتماء، وإخلاص وفاء، وحضارة وثقافة، وجمال يأسر الألباب، إنه حنين إلى البقاع، وشوق إلى المراقد، وإحساس بكل ذرة فيه، وتأملوا قوله ﷺ عن جبل أحد: «أحد جبل يحبنا ونحبه»، فكيف بوطنٍ بأسره؟

أيها المكرمون، لقد ضرب لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حب الوطن، فقال سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جدارات المدينة، أوقف راحلته، وإن كان على دابة حركها؛ من حبه لها»، ويعقب الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا الحديث في «فتح الباري» فيقول: (وفي الحديث دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه)، وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله معبرًا عن هذا الحب الفطري: «وكانت العرب إذا سافرت، حملت معها من تربة بلدها تستشفي به عند مرض يعرض»

أيها النبلاء… اقدروا للوطن قدره، فإن حب الوطن ليس مجرد شعارات ترفع، بل هو عمل جاد وإتقان في كل موقع، فالموظف الأمين، والعامل المتقن، والطالب المجتهد، والمعلم المربي، والطبيب الحريص، والتاجر الصدوق، كل هؤلاء يبنون وطنهم بإخلاصهم، وحفاظهم على هويته الثقافية والدينية، ولغته المبدعة العلية، ومرافقه العامة.

دامت لنا نعمة مصر محفوظة مرعية مجبورة منصورة، ببركة دعوة صالحة من آل بيت الجناب المعظم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيا أيها الناس، إن الحب الحقيقي للوطن يتجلى في أفعالنا، في مدى حرصنا على كل ما يخص هذا الوطن، وأولى هذه المظاهر وأوضحها، الحفاظ على الممتلكات العامة التي هي ملك لنا جميعًا، هذه الممتلكات، أيها الإخوة، هي ملك لنا جميعًا، ومن صور ذلك الحفاظ على وسائل النقل العام، ومنها القطارات، فإنها شرايين حياة تربط أرجاء الوطن، فهل يُعقل أن تُلقى الحجارة عليها؟ كيف لإنسانٍ أن يُخرب قطارًا ويعبث بمرافقه التي تنفع الركاب؟ هل يُقبل أن تؤذي إنسانًا، أو تكون سببًا في هلاكه؟ إن من يقوم بذلك لا يدرك أنه يعيق تقدم بلده، ويؤخر مسيرة التنمية، ويؤثر سلبًا على آلاف المواطنين الذين يعتمدون على هذه الوسيلة الحيوية

أيها الكرام، واعلموا أن من أهم دلالات حب الوطن الحفاظ على هويتنا الثقافية الأصيلة، ولغتنا العربية الشريفة، هويتنا الثقافية هي مرآة تعكس تاريخنا وحضارتنا وقيمنا، وعمود هذه الهوية لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم، لغة الضاد، التي بها نفكر، وبها نتواصل، وبها نعبر عن ذواتنا، فهل يرضى محب لوطنه أن يرى لغته تضعف، وأن تهجر كلماتها، وأن يستولي عليها الأجنبي؟ إن الاعتزاز بلغتنا واستخدامها الصحيح، وتشجيع أبنائنا على تعلمها وإتقانها، هو جزء لا يتجزأ من حب الوطن، إن الحفاظ على ثقافتنا ولغتنا هو صون لتراث الأجداد، وبناء لمستقبل الأبناء.

واعلموا أن من صور حب الوطن العملية المساهمة في بناء اقتصادنا الوطني، فاقتصاد الوطن هو عصب الحياة، وقاطرة التنمية، فكل جهد يبذله الواحد منا في عمله، كل إخلاص في وظيفته، كل إتقان لمهنته، يصب في مصلحة الاقتصاد الوطني، شراء المنتجات المحلية، دعم الصناعات الوطنية، تشجيع الاستثمار، محاربة الفساد، كلها خطوات عملية تعزز من قوة اقتصادنا، وتوفر فرص العمل لأبنائنا، وتمكن بلدنا من تحقيق الاكتفاء الذاتي والتقدم، إن الجندي الذي يدافع عن وطنه، والعامل الذي يخلص في صنعته، والتاجر الذي يتحرى الأمانة في بيعه، كلهم جنود في سبيل بناء هذا الوطن ورفعته، ولقد قال الله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، فهي دعوة إلهية للعمل والإتقان، وما أعظم أن يكون عملنا في خدمة الوطن وصالح الناس

فلنتقِ الله أيها الأحبة، ولنجد من حب الوطن دافعًا لنا للعمل الصالح، وللحفاظ على كل ما يخصه، ليكن كل واحد منا حصنًا منيعًا يحافظ على ممتلكات وطنه، ولسانًا فصيحًا يدافع عن لغته، ويدًا عاملة تساهم في بناء اقتصاده، اللهم انثر في بلادنا مصر بساط الرزق والعافية، واهدنا سبل السلام والأمان والإكرام.