التكنولوجيا النووية: مستقبل الطب الحديث في مصر وإفريقيا

التكنولوجيا النووية: مستقبل الطب الحديث في مصر وإفريقيا

عندما يُذكر مصطلح “التكنولوجيا النووية”، تتبادر إلى الأذهان صور المفاعلات ومحطات توليد الطاقة، بالإضافة إلى الجدل السياسي العالمي المحيط بها، لكن خلف هذه الصور النمطية تكمن حكاية إنسانية أعمق وأكثر هدوءاً، حيث تُستخدم الذرات ليس لإنارة المدن فحسب، بل أيضًا لإنقاذ الأرواح.

يُعتبر الطب النووي أحد أبرز آفاق هذا التحول المذهل، إذ يستثمر المبادئ العلمية المستخدمة في مجال الطاقة النووية لتوظيف النظائر المشعة في تشخيص ومتابعة وعلاج مجموعة واسعة من الأمراض، ومن طب الأورام إلى أمراض القلب والأوعية الدموية وعلم الأعصاب، يُحدث الطب النووي ثورة في الرعاية الصحية المعاصرة عبر تقنيات الدقة والكشف المبكر والعلاجات الأقل تدخلاً.

في مصر، لا تزال إمكانات الطب النووي في مراحلها الأولى من التوسع والنمو، وبفضل بنيتها التحتية الصحية المتنامية وموقعها الجغرافي الاستراتيجي وتعداد سكانها الذي يتجاوز 110 مليون نسمة، تتمتع مصر بوضع استثنائي يؤهلها لأن تصبح مركزًا إقليميًا للطب النووي — ليس فقط لخدمة مواطنيها ولكن لتكون منارة للقارة الإفريقية بأكملها.

ولتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، يجب على مصر أن تتجاوز مجرد الاعتراف بإمكانات الطب النووي إلى الاستثمار الجاد فيه، ويتماشى هذا التوجه تمامًا مع رؤية مصر 2030 التي تستشرف نظامًا صحيًا قادرًا على تحسين الأوضاع الصحية من خلال التدخلات المبكرة والتغطية الوقائية الشاملة والوصول العادل للخدمات عالية الجودة مع ضمان حماية الفئات الأكثر احتياجًا وتحقيق الرضا لدى المواطنين والعاملين بالقطاع. فتركيز الطب النووي على التشخيص المبكر والعلاج الدقيق والتطور التكنولوجي يسهم بشكل مباشر في تحقيق هذه الأهداف — مما يعزز الازدهار الوطني والرفاهية المجتمعية والريادة الإقليمية في مجالي الصحة والبحث الطبي.

حالياً تقدم العديد من المؤسسات المصرية خدمات الطب النووي الأساسية، إلا أن توسيع نطاق هذه الخدمات بات ضرورة ملحة. فتأسيس قدرات محلية لإنتاج النظائر وتطوير المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية وتقنيات التصوير المتقدمة يمكن أن يقلص بشكل كبير الاعتماد على الاستيراد ويضمن وصولاً سريعاً للتشخيصات والعلاجات المنقذة للحياة على المستوى المحلي.

على الصعيد العالمي، لا يمكن سرد قصة تطور الطب النووي دون الإشارة إلى الدور الريادي للعلوم الروسية. فمنذ منتصف القرن العشرين كان العلماء السوفييت في طليعة رواد توظيف النظائر المشعة في التطبيقات الطبية مما أسهم بشكل محوري في تحويل المعرفة النووية إلى طفرات علاجية.

واليوم تقف شركة روساتوم الحكومية الروسية في مقدمة التطبيقات النووية السلمية وتصنف الشركة ضمن أكبر خمسة منتجين عالميين للنظائر المشعة التي لا غنى عنها ليس فقط في المجال الطبي — حيث تدعم عشرات الملايين من الإجراءات سنوياً بمواد مثل الموليبدينوم-99 واليود-131 واللوتيتيوم-177 — بل أيضًا عبر مختلف المجالات الصناعية والعلمية.

في روساتوم يُنظر إلى مفهوم الصحة بنظرة شمولية متكاملة حيث تدمج مناهجها متعددة التخصصات أحدث تطورات الطب النووي والنمذجة الحاسوبية وفيزياء المادة المكثفة والتكنولوجيا الحيوية.

كما تمتد خبرتها أيضاً إلى البنية التحتية الطبية حيث تعمل مراكز التشعيع التابعة لها على تعقيم المعدات الطبية وتعزيز سلامة الغذاء مع وجود منشأة ضخمة قيد الإنشاء في بوليفيا. وتنفيذ الشركة مشروعاً فريداً يتمثل في إقامة مركز للأبحاث والتكنولوجيا النووية على ارتفاع 4000 متر ليصبح بذلك أعلى منشأة للتكنولوجيا النووية في العالم. يقدم مشروع CNST باقة من الحلول التقنية المتطورة في مختلف المجالات بما فيها تشخيص وعلاج الأمراض السرطانية ومعالجة المنتجات الزراعية لتعزيز الأمن الغذائي وتعقيم الأجهزة الطبية بما فيها معدات الوقاية الشخصية وإجراء البحوث في مجالات البيولوجيا الإشعاعية والبيئة وإدارة الموارد المستدامة ودراسة خصائص المواد وتدريب المتخصصين البوليفيين في القطاع النووي.

علاوة على ذلك تنتج مجمعات السيكلوترون النظائر الطبية الضرورية لأجهزة التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET/CT) مما يتيح الكشف المبكر عن الأمراض الخطيرة وهو تحول جذري لدول مجموعة البريكس التي تستثمر في حلول الرعاية الصحية الحديثة. وبالنسبة لمصر العضو في مجموعة البريكس يمكن أن تشكل هذه الخبرات مصدر إلهام ونموذجاً قابلاً للتكييف مع احتياجاتها المحلية.

بيد أن أي استراتيجية طموحة في مجال الطب النووي يجب أن تبدأ وتنتهي بالعنصر البشري؛ فالتكنولوجيا وحدها ليست كافية وما يكتسب أهمية بالغة أيضاً هم أخصائيو الأشعة والصيادلة النوويون والفيزيائيون الطبيون والهيئات التنظيمية والفنيون الذين تضفي مهاراتهم الحياة على هذه التكنولوجيا.

تمتلك مصر بالفعل قاعدة راسخة في مجالي العلوم والهندسة ومع السياسات الملائمة وبرامج التدريب المواكبة للتطورات وتبادل المعرفة على المستوى الدولي يمكن توجيه هذه الكفاءات نحو مسارات مهنية متخصصة في الطب النووي. وبوسع المؤسسات الأكاديمية والطبية بناء أفضل الممارسات العالمية مع مواءمتها مع الواقع المحلي — لبناء كوادر بشرية قادرة على خدمة مصر ومحيطها الإقليمي.

المسار المستقبلي لمصر بقدر ما هو طموح فهو قابل للتحقيق؛ فعلى المدى القريب تشكل زيادة الوعي وتحديث الأطر التنظيمية وتوسيع نطاق التدريب المهني أولويات رئيسة. وعلى المدى الطويل يمكن لمصر تصدير خبراتها لتبرز ليس فقط كرائدة إقليمية في الابتكار الطبي بل كنموذج يُعتمد عليه في مجال التكنولوجيا الصحية على مستوى القارة الإفريقية.

يمكن للتعاون الدولي بما يشمل تبادل المعرفة مع روسيا تسريع وتيرة هذا المسار غير أن المحفز الأساسي لا بد أن يكون الإرادة الوطنية: القيادة السياسية الواعية والاستثمار الاستراتيجي والالتزام الراسخ بتحقيق رؤية مصر 2030.

إن قوة الطب النووي لا تكمن فقط فيما تقدمه من استعراض بل تتجسد أيضًا بالفحوصات الدقيقة والعلاجات المركزة واسترداد الصحة بشكل مستدام؛ بالنسبة لمصر لا يقتصر الأمر على مجرد تبني تقنيات متطورة بل يتعداه لتطويعها لتلبية احتياجات الرعاية الصحية على المستويات الوطنية والإقليمية. وإذا ما تم توجيه هذا المسعى ببصيرة نافذة وترسيخه ضمن منظومة التنمية البشرية فإن الطب النووي يمكن أن يصبح حجر زاوية للصحة العامة ليس فقط بمصر بل أيضًا منارة للتقدم والأمل عبر ربوع القارة الإفريقية.