"27 عامًا على رحيل الشعراوي: إمام الدعاة الذي أسّر القلوب والعقول"

<p><strong>"27 عامًا على رحيل الشعراوي: إمام الدعاة الذي أسّر القلوب والعقول"</strong></p>

اليوم، 17 يونيو، نحتفل بذكرى مرور سبع وعشرين سنة على رحيل الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، أحد أبرز الشخصيات في الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، والذي توفي في مثل هذا اليوم من عام 1998 عن عمر يناهز 87 عامًا، ورغم مرور أكثر من ربع قرن على وفاته، لا يزال صدى كلماته وتفسيره الجميل للقرآن الكريم حاضرًا في قلوب الملايين، الذين اعتبروه مرشدًا لهم ومجددًا لروح الإيمان في زمن التحديات.

من دقادوس إلى منابر العالم

وُلد الإمام الشعراوي في قرية دقادوس بمحافظة الدقهلية في 15 أبريل 1911، نشأ في بيئة متدينة تعشق العلم، حيث أتم حفظ القرآن الكريم في سن الحادية عشرة، ثم التحق بمعهد الزقازيق الأزهري، حيث أظهر تفوقًا ملحوظًا في اللغة والشعر، وهذه الملكات شكلت أساس أسلوبه الفريد في مخاطبة الناس، وواصل دراسته حتى التحق بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، مؤمنًا بأن فهم اللغة هو المفتاح لفهم مقاصد الشريعة.

مسيرة علمية استثنائية

بدأت رحلته التعليمية كأستاذ في عدد من المعاهد الدينية في طنطا والزقازيق والإسكندرية، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية في الخمسينيات ليعمل أستاذًا للعقيدة الإسلامية في جامعة أم القرى، على الرغم من تخصصه في اللغة، ما كان تحديًا كبيرًا استطاع تجاوزه بجدارة.

تقلّد الإمام العديد من المناصب الرفيعة، حيث شغل منصب مدير مكتب شيخ الأزهر، ثم رئيس بعثة الأزهر في الجزائر، ثم وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر في حكومة ممدوح سالم عام 1976، ليصبح أول من يُصدر قرارًا بإنشاء بنك إسلامي في مصر وهو بنك فيصل الإسلامي، رغم أن ذلك كان خارج اختصاصه المباشر كوزير.

مواقف وطنية لا تُنسى

ولم يكن الشيخ الشعراوي داعية فحسب، بل كان أيضًا صاحب مواقف وطنية وعقائدية حاسمة، أشهرها اعتراضه على محاولة نقل مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام خلال توسعة الحرم المكي، حيث بعث برسالة إلى الملك سعود يستعرض فيها حكم الشرع في الأمر، مما دفع الملك إلى الاستجابة لرأيه ومنع تنفيذ الخطة.

كما خاض الشعراوي معارك فكرية من خلال الإعلام للرد على شبهات المستشرقين ومناهضي الإسلام، وكان في طليعة من تواصلوا مع الشباب بأسلوب بسيط وعميق في آن، جمع بين المنطق والوجدان.

جوائز وتكريمات

نال الشعراوي خلال حياته العديد من الأوسمة، أبرزها وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام 1983، والدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات المصرية، بالإضافة إلى عضويته في مجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية ومجلس الشورى، ورغم المناصب العديدة التي طُلب منه شغلها، إلا أنه رفض الكثير منها ليكرس وقته للعلم والدعوة وخدمة الناس.

مؤلفات وتفسيرات خالدة

خلف الشعراوي إرثًا علميًا كبيرًا من المؤلفات والتفاسير، ومن أشهرها برنامجه التلفزيوني “خواطر الشعراوي” الذي قدّم فيه تفسيرًا مبسطًا ومُلهمًا للقرآن الكريم، بأسلوب جمع بين عمق التفسير ودفء التناول، مما جعله يدخل البيوت والقلوب بلا استئذان.

ومن كتبه أيضًا: معجزة القرآن، أنت تسأل والإسلام يجيب، الإسلام والفكر المعاصر، وقضايا العصر، وغيرها من الأعمال التي تناولت قضايا الدين والحياة بمنطق العالم الرباني القريب من الناس.

اللحظات الأخيرة.. واللقاء المرتقب

روى نجله، عبدالرحيم الشعراوي، أن والده كان يُدرك تمامًا اقتراب أجله، فقبل وفاته بعدة أيام، انقطع عن الدنيا ورفض الأدوية والطعام والهواتف، واكتفى بجلسات صامتة مع أبنائه وأحفاده، بل إنه طلب تجهيز جنازته بنفسه، وأوصى ابنه بأن يكون ثابتًا رابط الجأش.

وفي اليوم الأخير، طلب أن يستحم، ويقص أظافره، ويرتدي ملابس جديدة، ثم انفرد بنفسه في خلوة مع الله، وبحسب رواية الابن، فإنه في لحظاته الأخيرة، كان يُردد أسماء آل البيت وكأنه يراهم، ثم نطق الشهادتين، و«خرج السر الإلهي» كما قال.

إرث لا يُنسى

رحل الشعراوي جسدًا، لكن أثره باقٍ في كل بيت شهد خواطره، أو قرأ كتبه، أو تأثر بخطبه، كان إمامًا يتحدث بلسان العصر دون أن يُفرّط في الثوابت، عالمًا ببساطة المزارع، وفقيهًا بفطنة المفكر، لا يعلو صوته إلا لتطهير القلوب.

في ذكرى وفاته، نستحضر سيرة رجل جعل من الدعوة إلى الله مسارًا للرحمة، ومن العلم جسرًا للتقوى، ومن التواضع سبيلًا للخلود، رحم الله إمام الدعاة محمد متولي الشعراوي، وطيب ثراه، وجزاه عن الأمة خير الجزاء.